آن الأوان لأن يغادر الشعراء «مُتَرَدَّمَهُمْ» إلى فضاءاتٍ أخرى تُطْلَقُ فيها أجنحةُ الحروف أعلى فأعلى.
وأرجو أن تُؤدِّي النوص الجديدة غايتَها الساميةَ في تكوين رؤيةٍ وإضافةٍ وأسلوبٍ معاصرٍ يَحْتَاجُهُ أبناءُ اليوم والغد؛ كركيزة لفهم الحياة بعميق حالاتِها الحالية هاربينَ من ذهنيّاتٍ ماضويّةٍ تطاردنا لأسبابٍ غير إبداعية في أغلب الظَّنّ، وأقول: ما نَفْعُ أيِّ نوعٍ من أنواعِ المعارف الإبداعيةِ إذا كان شبيهاً بآلاف أو ملايين النصوص التي سَبَقَتْهُ.
أسئلةُ الواقع والحياة مكتظَّةٌ بالإلحاح، وعلى المبدعينَ مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ في الإجابةِ عنها.
أنا لا أَقْبَلُ الوصايةَ بكلِّ أنواعها، بَيْدَ أنني قد أستفيدُ من مقولةٍ طائشةٍ أَطْلَقَها مجنونٌ عارٍ يجري في الطُّرقات، وكُلُّ النصوص شرعيةٌ؛ أكانت قصيرةً أم طويلةً، ساخِرةً أم جادّةً.. وأقتدي بذلك بأبي حيان التوحيدي والجاحظ على سبيل المثال لا الحصر.
أكْتُبُ من دون ارتباك.. ذاهباً بقلمي حتّى آخِر مِدادِهِ، ومَدَياتِهِ، وأبتكرُ تَشَظِّياتي في حالةِ رخاءٍ طبيعيةٍ.. ولا أستوردُ شيئاً من أحَد، بَيْدَ أنني أحترمُ جميعَ التجارب.
كثيراً ما سمعتُ أنَّ نشأةَ النصوص النثرية التي تحمل كثيراً من الشعر كانت ردّة فعلٍ تُجاه الانحطاط الحضاري.. وأنَّ النزوع إلى الحريةِ هو من بوادر ولادتها، بينما أرى أنّ كلّ نثرٍ مدروسٍ يُشكِّلُ إضافةً جديدةً…
أعتقد أنّ المطلوب من النصوص التأمُّليَّةِ النثريةِ كهدف إستراتيجيّ لها، أن تُنْتِجَ شِعْريَّةً خاصةً بها، وحالةً فكريّة واضحةً ومخلصةً لروح النص الحديث، فهي نصوصٌ مغامِرةٌ وطَموحةٌ وشجاعةٌ، وقادرة على فتح المغاليق والانطلاق نحو فضاءات لا تُحَدُّ، كما أنّه مطلوبٌ منها التحلِّي بصفات المواظبة على توليد الجديد الصّادم على المستويين اللّغوي والجمالي بهدف إحداث المزيد من الجمال في روح النص وتفجيره، وأتساءَلُ ما الفرقُ الكبيرُ بين لغة الشعر ولغة النثر؟ وهل هناك لغتان؟
ومن البدهي أنّ النصَّ النثري يحمل مضامين عاطفية ونفسية واجتماعية وسياسية، بمعنى أنها قادرة على استيعاب جميع الأفكار ونثرها بشكل حيّ وناضج غير عابئةٍ بالأشطر والقوافي، نهاياتُها لا تتفق مع موسيقا معينة وذلك لمصلحة نهايات فكرية، ولها ملامح خاصة متعدّدة تجعلُ كتابتَها ليست بالأمر اليسير.
والنثر قيمةٌ بحدِّ ذاتِهِ وتكمُنُ قيمَتُهُ أيضاً في شعريّتهِ إضافةً إلى محاولة الخروج من التركيبة النمطية المُطْلَقة… والمساعدة على الخروج من رتابة الماضي.
لا أعتقد أنَّ كاتبَ النصوص النثرية يُريدُ الإساءةَ للقامة السامقة للفراهيدي.. فلماذا لا يخطر ببالنا أنّها تحمل على عاتقها هَمَّ إزاحة الغطاء عن جمالياتٍ شعريةٍ جديدة مَطمورة في لغة النثر؟
وحقيقةً أرى أنَّ التناقضات التي تثيرها زوابعه تَصُبُّ جميعُها في مصلحةِ الشّعر وأهدافِهِ النبيلة، فبعض نماذج هذه النصوص قد يصل إلى حدّ القطيعة مع الموروث وينحو ببعضه الآخر إلى اتحادٍ بهِ أو شِبْهِ توحُّدِ مَعَهُ.. فهي تَكْسِرُ آفاق التَّوَقُّعات لدى القارئ بهدف أن يكون لها مكانٌ حقيقيٌّ يُشار إليه من جميع متذوِّقي أشكال الشعر، فالشحناتُ الانفعاليةُ تكاد تكون متشابهةً تجاه جميع أشكال الإبداع….
وأنا شخصيَّاً لستُ ضدَّ تَسْمِيَتِها نصّاً عابراً للأزمنة أو قصيدة نثر أو نصّاً متوهّجاً لافتاً أو تأمُّلات، ولكنني لستُ مع تسميته نَثْراً فنّياً… وهي تُعْنى بالتفاصيل والابتعاد عن المتاحف اللغوية التراثية وتناصّاتها التي أَنْهَكَتْها كثرةُ الاستعمالات، وخفّفتْ من بريقها إعادةُ الصياغات.
بكّل الأحوال علينا نحن الذين نزعُم أننا نكتُبُ رسائل حضاريةً وإبداعيةً للتاريخ والإنسان والحياة، أن نبحث عن شرف المعنى دائماً، وأن نَبْتَعِدَ عن جميع الاحتقانات البلاغيةِ وغيرِها، وأن نَكْتُبَ نصوصاً عاريةً من الوصايات تُشَكِّلُ جمالياتٍ كتابيةً وصروحاً إبداعيةً تَحْمِلُ في طيَّاتها كل ما يَسْتَبْطِنُهُ الكائنُ البشري مِن سحرٍ وجمال.
هناك من يعدّ أنَّ قصيدة النثر أو النصّ النثري المختلفِ مجرد خروجٍ على السياق الشعري المألوف، فليكن هذا اجتهاداً له أجره، بينما أنا أعدّها مُنْجزاً حضارياً وتطوراً شعرياً لافتاً، تحت شعار: ضرورةُ إعادةِ قراءة الماضي بعين مُعاصِرةٍ واستشرافِ المستقبل… وإذا أردْتَ كتابةَ هذا النوع من القصائد أو النصوص فعليكَ أَنْ تكونَ مُلمّاً بالموروث اللغوي والجمالي وواعياً لضرورة التجاوز.. عليك أن تكون نورساً عابراً للتضاريس.. وأَنْ تكونَ روحُكَ الشِّعرية سامقةً وحيويّةً وجميلةً ومكتنزةً لأرقى أنواع الخيال.
لسنا مع امّحاءِ الهُويَّة أبداً، ثم من قال إنَّ ذلك لا يعمل على شحذ الهوية بدمٍ جديد؟ نحن ندعو لضرورة التخلُّصِ السريع من الشحوم والمضامين التي تجرُّنا إلى الوراء، وتُثقِل خَطْوَنا، تحت شعار وهم الإبداع، بينما هي حالة نُكُوصِيَّةٌ لمصلحةِ أشخاص أكَلَ عليهمُ الزمنُ وشَرِبَ.. وذات مضامينَ أخرى أَسَّسَتْ وما زالتْ تُؤَسِّسُ للإقصاءِ الإنساني من خلال دراساتٍ ونصوصٍ يُسبغونَ من خلالها على ذواتهم ونصوصهم صفاتِ التقديس، وفي الحقيقة هم مصرّون على إعادة إنتاج نصوصهم في ظروف مختلفة، حيث لم يَعُدِ الكثيرُ من نتاجهم يَخْدُمُ إنسانَ اليوم بل يُضرُّهُ ويَجْعَلُهُ غافلاً عن كلِّ ما يجري حوله من مستجدّات.
كما أعتقدُ أنَّهُ آن الأوان لكسر معياريّةِ القول المؤبَّد: إنّ الوزْنَ هو المعيارُ الحاسمُ والأَهمُّ لمعياريّة الشعر.
ومن خلال مواظبتي على تعميق خطّي الشعري قَرَأتُ آلافاً من الكتابات التي تكنَّى بقصيدةِ النثر فتبيّن ليَّ أنّ أغلبها لا ينتمي إلى الشعر، وكذلك قصائد عمودٍ وتفعيلةٍ، وبالمقابل قَرَأْتُ كثيراً من النصوص وقصائد النثر التي تتفوّق على القوالب الجاهزة المكتفية بالوزن والقافية.
بكل الأحوال هاجسُ الإبداعِ الحقيقي أن يكونَ مختلفاً حتى بين كاتبٍ وآخر.. ولا أحد يَستطيعُ مَنْعَ الناس من تعدُّدِ أذواقِها واتّجاهاتِها.. وكُلُّنا يعرف أنه حصل هناك تحوُّل حقيقيٌّ ونوعي في القصيدة العربية /من المُقَفَّاةِ إلى التفعيلة/ وذلك بعد آلاف السنين من الاعتماد على قصيدة العمود.. وكان يُسمَّى تجريباً؛ ثمّ أصبح ضرورةً لها الحظُّ الأَوْفَرُ في المعياريةِ الشعريَّةِ العربية، وذلك دون أنْ يُلغي ما سَبَقَهُ من أشكالٍ كتابية، فشعر التفعيلة حَقَّقَ كُلَّ المفاهيمِ الإيقاعيةِ واسْتَوْلَدَ جمالياتٍ ودلالاتٍ وتحولاتٍ وتطوراً ضرورياً في المسار التاريخي للشعر والذائقة الشعريّة.
ومن خلال هذه التنازعات والجِدالات الضرورية في سياقِ الأزمنة أقول: لا يمكنُ لمفهومٍ ما عن أيِّ شيءٍ أن يَستقرَّ لآلافِ السنين.
واللغةُ بالضرورةِ هي مادةُ الأدب عموماً والشّعْرِ خصوصاً، ولكن ليستِ اللغةَ المقطوعةَ وغيرَ الحيويةِ والهامدةَ.. إنما اللغةُ التي تتفجَّرُ كالبركان، وهي أيضاً من صناعة الإنسان..
إنني مع القائلين إنَّ النصَّ النثري يمتلكُ مساحةً كبيرةً من الحرية على خريطة الشعر.
وأنا شخصياً مع بيئةِ النثرِ الطالع من الثقافة التراثية العربيةِ.. القادر على تشكيل رؤًى وأفكارٍ تخدم الإبداعَ الجديد الذي يحتاجُهُ المجتمع.. كما أنني مع التثاقف مع الغرب والشرق إلى حدودِهِ القصوى، مع الحفاظ على هُوِيَّتِنا وتحسينِ صورة مفرداتنا ودلالاتِها بما يَخْدُمُ أغراضَ الشِّعر والجمَال، ومع ضرورة اهتمام كتاباتنا بالموضوعات الإنسانية التي لا تقتصرُ على بيئةٍ بذاتِها، وأُحِبُّ أَنْ أَلْفتَ هنا الانتباهَ وخصوصاً لأولئكَ المهتمين بالأشكال الكتابيةِ الجديدة وعملياتِ التجريب إلى أَنَّ الإيقاع هو في كل شيء في الحياة… ويَغيبُ كُلُّ إيقاع عندما لا تكونُ هناك حياة.
جمالية النصِّ تكمن في عناصِرِهِ الحداثوية سواء في الأدب /القديم أم الحديث/، ومن سمات القصيدة القديمة التكرار والتشابه، وللقصيدة الحديثة تحوّلاتها التي تحقق من خلالها لغةً شعريةً حديثة ذاهبةً في ذلك إلى غايتها القصوى وهي صياغةُ إبداعٍ جمالي تعبيري مختلف.
لسنا بحاجةٍ إلى أيِّ شكلٍ شعريٍّ مملوءٍ بالنَّظْم تحميه لُغةُ المُقدَّسات الخشبية أو السياسات المشبوهة أو التآلف مع عدم البحث عن رؤى جديدة.. إنَّما نحنُ بحاجة إلى نصٍّ يحميه حضورُهُ اللُّغَويُّ الحداثوي الإبداعي.. يحميه المتلقّي الذي هو كائن بشري يتفوَّق على ذاته دوماً في إنتاج الجمال الروحي والأدبي المستمرّين.
الشِّعْرُ الإسلامي توسَّعَتْ رُقْعَتُهُ في العهد العباسي وما بعده، وقد اكتسب بروقاً جديدةً كالموشحات وغيرها مثلاً من التنويعات الأسلوبية على بحور الفراهيدي… وكثيرٌ من شعرائنا القدامى أسهموا في تنمية الحداثة من حيث الصورة والإضافات في الرومانسية وتطويع اللفظ والمعنى، والحداثة الشعرية ..
هكذا نرى أنه يجب أن توصلنا القصيدةُ – النَّصُّ – إلى انتعاش روحيٍّ حقيقيٍّ من خلال عبقريتها في الإيحاء والصَّدْمة والإدهاش والإثارة والمباغتة، خارجةً بذلك عمّا ألِفناه من تطريب متشابه عبر آلاف السنين.
وإنني أرثي لحالِ من يقول: إنّ كُلَّ هذا (دَخيل).. لأننا ننطلق بما ندعو إليه من تراثنا وبيئتنا ولغتنا وسيرورة زمننا الشعري الإبداعي، ناظرين إليه بعين الاحترام والقراءَة المشبعة بجمالياته لنقول: إنّه موروثنا نحن، كما هو موروث للإنسانية جمعاء، ولا أعتقد أنّ هناك مشكلة من الناحية التاريخية.
والحياة دائماً في أَخْذٍ وردٍّ، والمتعصبونَ المنغلقون على أنفسهم في جميع مناحي الحياة، لن ينالَهم إلّا التخلُّفُ والازدراء والإغراق في الشُّبهات.
أكرر أقوالي بأنني لستُ منظِّراً في الحالةِ النقدية للشعر والنثر العربي.
القادم بوست
قد يعجبك ايضا