الأديبة هدى يونان تروي آخرَ حكاياتها «قرب البحر» (نقلاً عن تشرين
تشرين- خليل اقطيني:
وضعت الأديبة هدى يونان في مجموعتها «قرب البحيرة» أجمل ما كتبته من قصص، لكنها اختارت الرحيل «قرب البحر».. واذا كانت قد فعلت الحالة الأولى بمشيئتها، فإن الحالة الثانية حصلت بمشيئة الله، اذ انتقلت مؤخراً هدى يونان وهي ابنة الحسكة إلى جوار ربها، في أحد مستشفيات طرطوس، عن عمر يناهز الـ75 عاماً قضتها بين العمل التربوي والكتابة الأدبية، قاصة من الطراز الرفيع، ما أهّلها للحصول على مركز متقدم في الأدب النسوي في الجزيرة السورية.
ولأنها لم تكن تحبذ القصص الطويلة، فقد غلب على قصصها طابع التخصيص لا التعميم، فهي لا تتناول حياة بأكملها، أو شخصية كاملة بكل ما يحيط بها من حوادث وظروف وملابسات، وإنما تكتفي بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد، أو زاوية واحدة من زواياه، ورصد خلجة واحدة من خلجاته، أو ربما نزعة صغيرة؛ وتصويرها تصويراً مكثفاً خاطفاً، يعجز العقل الإنساني أحياناً عن متابعته.
ولا شك في أن التركيز والتكثيف هنا مَكّنا الراحلة من القبض على لحظة حياتية عابرة، ولم يسمحا بتسرب الجزئيات والتفاصيل، الأمر الذي حَتّم عليها الاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشواً يُرْهِل النص، ويضعف أثره الجمالي، وهذا ما جعل قصصها لا تحتمل غير حدث واحد، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية واحدة نتجت من حدث تم بالفعل أو متوقع حدوثه.
إذ تتنقل الكاتبة الراحلة في أحداث قصصها من الهمّ الوطني كما في قصة «أمي من فلسطين»، التي تتحدث فيها عن موت أمها التي كانت تحلم برؤية القدس، وقصة العرس قرب البحيرة، وكذلك قصة «طفلة قانا الشهيدة»، إلى الهم الاجتماعي كما في قصة «عيد الحب» وغيرها، إلى الوجدانيات كما في قصة «بعد رحيله الحزين» التي تتحدث فيها عن موت شقيقها الساكن وحيداً، وقصة «لونا» وغيرهما.
وبين كل هذه الألوان من الفن القصصي ثمة رابط مشترك هو المأساة التي تتجلى أكثر فأكثر في قصة «بعد رحيله الحزين»، ثم تصبح أكثر وضوحاً في قصة غسيل الصوف.
كما كانت الراحلة هدى يونان تستخدم مفردات من النمط ذاته كجملة «فجر قلوب الفتية والأطفال، وملأ قلوب الأمهات مرارة». و«الحضارة» في قصة رسالة إلى أمي بعيون هدى يونان «دون طبيعة حية، ستقود حتماً إلى الكارثة وستودي بنا إلى الصحراء» وهي لاترى من «المدينة» «غير وجهها البارد الجامد» وجعلت «منها ومن الطبيعة ضدين». معتقدة «أن الحضارة والطبيعة على طرفي نقيض». والبيوت عندها «أقفاص إسمنتية جامدة، تسلق أجسامنا بقيظها الشديد صيفاً وتصفعنا بجليدها شتاء». والمطر «الهاطل علينا صار حمضياً معدنياً يميت من يغتسل به» والتراب « غدا على دروبنا الضيقة إسفلتاً كتيماً دون أحاسيس». وترى العالم «مجنون أحمر قد افترس الطيور الجميلة، وذبح الأشجار الوارفة الخضراء، وخنق نسائم الربيع النقية.. قتل الألوان المشرقة الحية، ولوّث الكون بلون رمادي كئيب، سلط مضخاته الجبارة لتنفث غيومها السوداء السامة، تغطي الفضاء الصافي البهيج، وتحجب السماء النقية الزرقاء».
قصص الأديبة الراحلة هدى يونان شائقة، كُتِبَت بأسلوب رشيق سلس، ربما اكتسبته من عملها معلمة في مدارس الحسكة، وهذه القصص تعج بالكلمات والصور من واقع الكاتبة المعيش في الجزيرة السورية: (الخابور ــ الصفاف ــ شجرة التوت ــ سنابل القمح الغضة…).. باختصار، تتضافر عناصر القصة القصيرة لدى الراحلة هدى يونان وتتشابك لتخرج في النهاية هذه التركيبة الإبداعية الإنسانية الشائقة.
هدى يونان، أحد رموز الأدب النسوي الجزري، إلى اللقاء في المكان الأفضل.