أول من قدّها قسٌ من حلب.. القدود السورية وصداها العالمي (نقلاً عن تشرين)
تشرين- علي الرّاعي:
(القدود)؛ هي منظومات غنائية، أنشئت على قدود منظومات غنائية أخرى دينيّة، أو مدنيّة، أي أنها بُنيت على (قد\قدْرِ) أغنية شائعة، لتستفيد من شيوعها وسيرورتها في تحقق حضورها بين الناس، ومن هنا جاء اسم (القد)، وثمة القليل يرى إنها سُميت بذلك لأنها تُماثلُ قدّ المرأة رشاقةً وحركة وجمالاً.. ذلك ما يجمع عليه مُختلف كُتّاب المقالات التي جمعها، وحررها الدكتور فاروق أسليم، وقدّم لها رئيس اتحاد الكتّاب العرب في كتاب قراءات وشهادات في (القدود الحلبية) الصادر عن اتحاد الكتّاب العرب.. وفي محتواه قراءات وأبحاث لعشرة كتّاب منهم:محمد قجة، محمد قدري دلال، عبد الفتاح قلعجي، أمين رومية، وآخرون..
أما لماذا كانت القدود (حلبية)، رغم أن هناك بعض المدن الأخرى سورية وغير سورية كالموصل العراقية مثلاً عرفت القدود؟!، فذلك لأنها تُننسب لقسٍّ حلبي؛ فيما عُرف على إنه كان أوّل من فصّل فيها وخيّط في أثواب القدود الجديدة لنصوصٍ جديدة في قدّودٍ قديمة، وعلى ما يذكر غير باحث؛ إنه القديس مار إفرام السرياني (306- 373م)، أي في القرن الرابع الميلادي، إنه كان يأخذ ألحان ابن ديصان (154- 222م) الشعبية ذات السيرورة الشائعة، ويصوغ على قدّها اللحني نصوصاً جديدة تدعو إلى الإيمان والأخلاق الفاضلة، وتلك هي النشأة الأولى المدوّنة تاريخيّاً للقدود.. أما لماذا لجأ قس حلب إلى القدود؛ فكان ذلك أشبه ب(حيلة)، حيث تقولُ الحكايةُ: إنّ القس مار أفرام السرياني حارَ في أمر الناس الذين يأتون إلى الكنيسة أحداً، ثمّ لينقطعوا عنها آحاداً، ومن هنا كان تفكيره في صنعِ أمرٍ يحبونه، ولم يطل ذلك الأمر حتى اهتدى إلى الأغاني الشعبية التي يرددها القوم في احتفالاتهم، فحين تمعّن في ألفاظها ومعانيها لم يجدها مناسبة ليتغنوا بها أمام محراب الرّب، وهنا خطر على باله أن يأخذ اللحن الذي يحفظونه جيداً، ويعمد إلى النص، فيغيرّه إلى كلامٍ ديني منظوم على أعاريضه، وجعل يُردده روّاد الكنيسة، وهو ما استثمره الموسيقيون والمشايخ الإسلاميون فيما بعد إيما استثمار، ومن ثم كان تفصيل القد مُعاكساً، أي أخذ اللحن الديني، وتفصيل قد دنيوي عاطفي عليه.. بل وفي بعض الأحيان؛ ثمة من يُفصل قداً على قدر لحنٍ شعبي لأغنية، أو نص غير ديني، كما فعل الرحابنة في لحن نص الأغنية الشعبية التي بنوا على عروضها نصّاً جديداً:
“العزوبية طالت عليه قومي اطلبيلي يا ماما وحدة صبيّة
وقد جاء قدُّ الرحابنة:
البنت الشلبيّة عيونا لوزيّة بحبك من قلبي يا قلبي إنت عينيه”
حيث في (القدّ)؛ يحيا اللحن الواحد في نصين أو قدّين، قديم وحديث، ديني وعاطفي، أو العكس، وهذا التناسخ اللحنّي قديمٌ استمرّ عهوداً، ولايزالُ قائماً إلى اليوم.. ومن مآثر الشعراء الأندلسيين ابتكارهم لموشّح سموه (المُكفّر)، وصفتهُ؛ أن ينظم أحدهم شعراً دينياً (قدّاً) على موشّح غزلي كان قد نظمهُ في غابر أيامه؛ ضمنه من المعاني ما يتوافق وأهواء الصبا ونوازع الشباب، فراح به المغنون مُلحناً ينشدونه، فيأتي، وقد خطّ الشيبُ رأسه، يستغفرُ الله بالقدّ عما اقترفت عبقريته وشاعريته السابقة، مُضمناً إياه معاني الاستغفار تكفيراً عما جناه سابقاً..
وهنا – ربما- من المُفيد الإشارة لبعض التعريفات بالقد، منها ما يذكره نديم الدرويش: القدّ هو موشح خفيف من الدرجة الثانية، أخفُّ وزناً وأسرعُ إيقاعاً، أما الشكل الفني الشعري له، فهو كالموشح مؤلف من بدنية وخانة وغطاء، إن كان تاماً.. إذاً يُعد القدّ نوعاً من أنواع الموشح، ويتميز عنه بإيقاعاته البسيطة، وهذا لا ينفي وجود قدود مركبة، وثمة الكثير من الأغاني الشعبية تندرج تحت اسم القدود.. وخلاصة الأمر؛ القدّ: هو حلول لحنٍ قديم شائع، في نصٍّ جديد، اقتضته المناسبة أو تبدّلُ الأحوال..
كما من المُفيد سرد بعض الأمثلة على حياة نصين مُختلفين في لحنٍ أو قدٍّ واحد مثل هذه الأغنية الشعبية:
“هالأسمر اللون هالأسمراني
تعبان ياقلب خيو، وهواك رماني
بينما كان القد الديني:
يا إمامَ الرسل يا سندي أنت باب الله ومُعتمدي
ففي دنيايا وآخرتي يارسول الله خذ بيدي
كما نُظم على لحنها القد الحلبي المشهور:
قدُّك المياس يا عمري بغصين البان كادَ يزري
وأنت أحلى الناس في نظري جلّ من سوّاك يا بدري..
وعلى اللحن نفسه يجيء القدّ أو الأغنية الشعبية:
تحت هودجها وتعانقنا صار سحب سيوف يا ويل حالي..”
ولأنّ القدود الموشحة صنعة حلب؛ وهي من فخر التراث اللامادي السوري، نُذكّر إنه تمّ تسجيلها السنة الفائتة 2021 في لائحة التراث غير المادي العالمي..