أربعـــة وثمـــانون (نقلاً عن الجماهير)
بقلم عبد الخالق قلعه جي
من ذا الذي يستطيع أن يغادر ما فطر عليه، وما سارت عليه تلك السنون التي ما عرفت أبداً إلا المتحدرة منها درباً ومنعطفاً.. مفترقا وسبيلاً.
أن تُهدى إليك ترنيمة حب بيد موقعِها – والهدايا على قدر مهديها – .. فذلك لعمري زهو تحيا به نفسي، وعلى الروح يزينها وشاح، خيط قصبه، بوح من مولد النور عازفاً على قيثارة الجمال.. سيدة الحروف تبارك..أغنية لمسافر وحيد، عرف أن الستارة قد أسدلت وأن عليه أن يعود إلى الدار وحيداً غريبا.ً
جاء يعودني، وقد حمل سنيه الأربع والثمانين فيوضاً من مواجد وأسرار، ووجدتني أغوص في بحرها باحثاً عن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، أحاول من جديد أن أنفذ إلى تلك الروح لعلي أعرف أسرار الطريق.
سافرتْ بي تلك المصافحة التي تشرفت بها مستقبِلا ومرحِباً أكثر من اثنين وثلاثين عاما.. إلى إذاعة حلب، المرة الأولى الذي التقيته فيها قبل أن أحمل أمانتها، وإلى معاصرتي إياه معلِّماً ومعداً لبرامج إذاعية عديدة، ومؤلفاً لمسلسلات وتمثيليات درامية وسهرات منوعة.
أخذتني تلك اللحظات.. إلى خواطره الملونة “الطريق من الكلاسة إلى مدرسة العرفان الابتدائية في الأسواق القديمة، وأنا أقطعه يومياً عبر مقبرة الكليماتي وخندق السور الموازي وباب قنسرين الشامخ والحارات القديمة بأزقتها المتلاوية وعمائرها الأثرية، علمني كيف يقفز التاريخ من الأبراج المطلة وشقوق الأسوار إلى دم القصيدة والمسرحية”.
أي طريق هذا الذي سار بك وسرت معه وعليه…
الكلاسة تلك الحاضرة حيث ولد فيها .. شيخ الكتّاب وتنور الكلس.. برميل الغسيل وشظف العيش وقصاصات الورق المشتعلة التي كان والده يدسها في حذائه لئلا تتجمد قدماه أيام حلب الشتائية.. وجوه البائسين في باب أنطاكية ، ينتظر كل منهم من يشير إليه بإصبعه يدعوه إلى العمل يوماً أو يومين ليعود إلى عائلته ببعض أرغفة.. مفارقات إلى اليوم مستمرة، الإنسان .. التاريخ .. ضجيج الكلمات المنمقة التي لا تمنح رغيفاً لعيش .. التداخل بين التاريخ والواقعي أو بين التراثي والمعاصر، التراث عنده ليس أصيص زهر يضعه على خشبة المسرح، إنما هو كائن حي يشارك في صنع الحدث المسرحي المعاصر.
مابين مولد النور الملحمة الشعرية الصادرة عام 1971 وبين أغنية المسافر الوحيد الصادرة عام 2022 رحلة عمر وعطاء سارت بها ذاكرة عجيبة، انحفرت على جدرانها نقوش لا تمحي رغم عاديات الزمن، صارت مشاهد مختزنة ومعارف وأسفار تبحث عن طمأنينة النفس المرهقة وسكينتها.
أكثر من خمسين مؤلفاً في الفكر والأدب والتراث والتراجم والشعر وقصص الأطفال والرواية، وأكثر من خمس وثمانين مسرحية قدمت كثير منها على مسارح محلية وعربية حملت اسم مبدعها عبد الفتاح رواس قلعه جي ناقداً مسرحياً وكاتباً .. شاعراً وباحثاً.
حائراً أطوف على قطرات الروح أرتوي بعض أندائها..عابراً أحياء حلب وأسواقها برفقة سيدة الحروف متلمساً معراج الطير الحبيس.. هنا خير الدين الأسدي وهناك النسيمي والسهروردي.. وأمير للموشحات ..ترنيمة حب وأغنية المسافر الوحيد.
أربعة وثمانون حولاً.. وبين حين وآخر، ما إن يردد “سئمت تكاليفها، والعمر يركض” حتى كالشمس يشرق من جديد شلال العطاء أحرفاً غضةً ندية.. القدود الحلبية دراسةً .. طائر الظلام مجموعة مسرحية صادرة حديثاً وسفر الخروج نصاً مسرحياً لتوه انتهى من الكتابة… وفي الكأس لما تزل رشفات عاشق ورشفات.
ذات أصيل، أيام ذروة الحرب الآثمة .. رأيته ليس على كرسي ولا أريكة جالساً، إنما على رصيف.. بيده قلم وأوراق، وقد ولى ظهره شرفات الأبنية الحزينة آنذاك ، ويمم وجهه شطر شجيرات يكتب حديثها والشارع والناس، ليصيِّرها نصاً مسرحيا “على الرصيف ” عام 2014 .
الكاتب والباحث .. الناقد المسرحي والأديب عبد الفتاح قلعه جي..أربعة وثمانون.. إرادةً وعملاً.. عطاءً وإبداعاً.. قدوةً ومثلاً.. توجتك رائداً وعلَماً ومعلِّماً وإنساناً،فيما نذرتَ نفسك له.. ليرتشف الجهد المبدع قطرات من كأس العمر تنبعث من جديد دائماً.