أدب السّجون.. أن يعيش الكاتب آلامه مرّتين (نقلاً عن البعث)
نجوى صليبه
“كلماتهم لا تكون إلّا حرّة، حتّى لو ولدت خلف القضبان، ومن اختار الحرية فالحرية لن تخذله، ولا عبرة في الحديد أو النّار، وما يثبت هذا الكلام هو كمّ الأفكار التي استطاعت عبور حدود النّار وقيود الحديد لتصل إلينا كلمات مشعّة تنبض بالحقيقة”.. بهذه الكلمات المختصرة المفيدة قدّمت الشّاعرة سمر تغلبي أدب السّجون أو الأدب الذي يكتبوه الأسرى الفلسطينيون، مختصرٌ لابدّ من التّذكير فيه في وقت نسي بعض المثقفين قضاياهم وتملّقوا القول والفعل، وتنكّروا للحقّ والحقيقة وسنوات الحرب التي عشناها كانت خير دليل عليهم.
أمّا بدايات هذا الأدب، فهي كما يوضّح الأسير السّابق أحمد أبو سعود، يقول: الحديث عن الجانب المعرفي للأسرى والكتابة على وجه التّحديد، يقودنا إلى البدايات، وكما كلّ البدايات كان زرع قواعد التّعليم والتّعلّم صعباً، ودُفع ثمنه عناءً وعزلاً وأوجاعاً، حيث كان الصّراع على أشدّه، وكان الحصول على قلم أو ورقة أو كتاب حلماً بعيد المنال، إذ كان يحصل الأسير على ورقة فقط، مطبوع على أحد وجهيها سطور قليلة معنونة باسم “الصّليب الأحمر الدّولي” ليكتب الأسير عليها ثلاثة أو أربعة سطور إلى أهله الذي يكتبون الرّدّ على الوجه الآخر، ما أتاح له الاحتفاظ برسائله وردود أهله عليها، أمّا القلم فكان جزءاً من “برية قلم رصاص” يكتب فيه الأسير على ورقة يستخرجها من علب السّجائر، وهذا أتاح له أيضاً التّواصل بين أقسام السّجن الواحد، مضيفاً: لاقى الأسرى عنفاً وحرماناً أكثر في هذا المجال، ما شكّل تحدّياً أمامهم للحصول على حقّهم بالقراءة والكتابة والمعرفة، لذلك وضعوا مطلب الحصول على الكتابة قبل مطالب أساسية أخرى، وما كان للسجّان أن يستجيب لهم لولا خوضهم إضراباً مفتوحاً عن الطّعام، استجابةً مشروطةً في البداية، وتدريجياً ومع كلّ إضراب جماعي فُتحت مكتبات في السّجون، لكنّها ترافقت بالتّشديد وبمصادرة بعض الكتب بحجّة الفحص الأمني.
ويتابع أبو سعود: الأسرى الفلسطينيون والعرب يمثّلون فئات الشّعب كلّها، ما ساعد على تحويل غرف السّجون إلى قاعات للدّراسة، وكنا نقيم جلسات تعليمية وثقافية بمعدّل ثلاث أو أربع جلسات يومياً، وكثيراً ما حدثت مواجهات لفضّها، إضافةً إلى أنّ السّجان كان يتحكّم بإنارة الغرف، وبعد سنوات تمكّن الأسرى من إدخال المذياع والتّلفاز، بعد أن كانوا يستخدمون مذياعاً مهرّباً، وينسخون نشرات الأخبار ويعمّمونها على غرف السّجن والسّجون الأخرى، إضافةً إلى ذلك عمل الأسرى في كلّ سجن على تأسيس مجلة وطنية حملت في بعض الأحيان اسم هذا السّجن كـ”مجلة عسقلان الصّمود”.
وخلال النّدوة التي أقامها فرع القنيطرة لاتّحاد الكتّاب العرب بعنوان: “أدب ما وراء القضبان” قال الأسير كميل أبو حنيش في كلمة قرأها نائب رئيس الاتّحاد الشّاعر توفيق أحمد: إنّ كتاباتنا المتنوّعة التي اصطلح على تسميتها “أدب السّجون” ما كان لها أن تصل إليكم لولا الإرادة والإصرار على كسر القيود التي أراد السّجان فرضها على عقولنا بعد أن كبّل أيادينا واحتجز أجسادنا سنوات طويلة، وإن جاز لي أن ألخّص أدب السّجون الخاصّة بالأسرى الفلسطينيين، أقول إنّنا ونحن نكتب أدباً من قلب السّجن، لا نسجّل معاناتنا وما نواجهه من صنوف القهر والتّعذيب وحسب، إنّما نعدّ الأدب المقاوم جزءاً لا يتجزأ من معركتنا التّحريرية التي يتعيّن علينا أن نحسن خوضها على كلّ الصّعد بما فيها الثّقافي، وعندما يكتب الأسير ينبغي أن تكون كتابته مقاومة تشحذ الأمل والإرادة فلا خيار أمام هذا الأدب إلّا البقاء شامخاً ومبشّراً بالانتصار.
وحول تجربته الشّخصية في هذا المجال، تحّدث أبو حنيش: طوال عقدين من رحلتي مع القيد، ثابرتُ على كتابة الأدب إلى جانب الكتابات الأخرى، السّياسية والثّقافية والنّقدية، وتعرّضت كتاباتي مثلي للقمع، حيث صُودرت كرّاسات وأوراق، وواجهت صعوبات كبيرة في تسريب هذه الكتابات وإصدارها في الخارج، إلى أن أثمرت هذه الجهود، ونجحت في إصدار ما يناهز الـ15 كتاباً مطبوعاً حتّى الآن.
“الأسيرات وكتابة المسكوت عنه” عنوان محور حال ضعف شبكة الإنترنت دون حديث الأديبة الفلسطينية إيمان زيّاد حوله عبر الاتّصال المرئي من رام الله، لكن ولحسن الحظ فإنّ مشاركة الكاتب الفلسطيني عمر جمعة في جزء منها تصبّ في الفكرة ذاتها، يقول: حكايات كثيرة تروي عذابات وقهر من يلوذون منذ 75 عاماً وحتّى اليوم في عتمة الزّنازين وبرودة وقيظ السّجون، يقاومون وحشية السّجان والجلّاد والمحقق.. حكايات أكثر من 17 ألف فلسطينية معتقلة منذ عام 1967 حتّى اليوم، بينهن قاصرات وطالبات وأمّهات ومريضات وحوامل، تقول الأسيرة المحررة فاطمة الزّق مستعرضةً معاناة الولادة في السّجون الإسرائيلية عام 2007: ولدت طفلي يوسف في ظروف قاسية.. كُبلت بالقيود وقُتلت بطريقة غير مباشرة من الطّبيبة الحاقدة التي تركتني أواجه آلام المخاض والنّزيف الحاد، وشُبحت على سرير المشفى بعد الولادة ثلاثة أيّام متتالية وأنا مقيّدة بالحديد من قدمي ويدي اليمنى، ومُنع عنّي الغطاء في شهر كانون الثّاني، ولم يكتفوا بذلك بل فتحوا التّكييف البارد لتكون جلسة تعذيب جديدة تضاف إلى سجلاتهم القذرة.
ويضيف جمعة: حكايات ستُلهم وتستصرخ أقلام الكتّاب والرّوائيين، كما فعل الرّاحل جبرا إبراهيم جبرا في روايته “البحث عن وليد مسعود” الصّادرة عام 1978، وستفضح الإجراءات التّعسفية والأحكام الجائرة والممارسات الإجرامية الإسرائيلية بحقّ آلاف السّجناء والمعتقلين، نذكر هنا رواية “ورود برائحة الدّم” للأسير عبد الله البرغوثي التي سلّط فيها الضّوء على دور فتيات ونساء فلسطين في مقاومة الاحتلال، وعرض معاناة الأسيرات داخل سجونه، كذلك رواية “ستائر العتمة” للأسير وليد الهودلي التي كتبها داخل سجن “عسقلان”، ويحكي فيها عن تجربة الاعتقال والتّحقيق، ونذكر أيضاً روايات “شمس الأرض” للكاتب والأسير المحرر علي جرادات، و”حكاية صابر” للأسير محمود عيسى، و”العاصي” للأسير سائد سلامة، وثلاثية “سرّ الزّيت، سرّ السّيف، سرّ الطّيف” للأسير وليد دقّة، و”حكاية جدار” للأسير ناصر أبو سرور، و”نرجس العزلة” للأسير باسم خندقجي.
تتنوّع وتختلف المواضيع التي تتناولها هذه الرّوايات، لكنّها وبحسب النّاقد الفلسطيني رائد حواري عضو اتّحاد الكتاب الفلسطينيين -تحدّث عبر اتصال مرئي من نابلس- تتّسم بالموضوعية يقول: بدخولنا الألفية الثالثة وجدنا كماً كبيراً من الرّوايات التي تتناول موضوع الاعتقال، وبغضّ النّظر عن تعاطفنا معها فنحن أمام نصوص استوفت كلّ العناصر الفنية والإبداعية، وأمام باقة من الإبداع تجعل لكلّ رواية ميزة خاصة، ونحن نعي أن المضمون كان واحداً لكن قدرة الكاتب على تصوير المشاهد التي مرّ فيها خلال سنوات الأسر من أصعب الأمور، يقول أحد كتّاب رواية السّجن إنّ الحديث عن الألم والتعذيب هو تعذيب آخر لنا، مضيفاً: يُحسب للرّواية أنّها تقدّم الآخر على حقيقته وطبيعته، أي لا تقدّمه فقط بشكلٍ متوحش عديم الرّحمة، بل كما هو هناك، فبعض الأفراد في كيان الاحتلال يُجبرون على تنفيذ أوامر وتعليمات دولتهم.
ويبيّن حواري: على الرّغم من الألم الذي يقع على أبطال الرّواية، نجد أنّها التزمت بالحقيقة ونجد أنّ الأسرى لم يتحدّثوا بانفعال، وهذا يؤكّد الحالة الإنسانية التي يتمتّعون بها.